فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [21].
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} أي: الجامع للمواعظ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال، {عَلَى جَبَلٍ} قال المهايمي: أي: بتفهيمه له، وتكليفه بما فيه، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة، {لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} أي: متذللا لعظمة الله {مُّتَصَدِّعاً} أي: متشققا {مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} أي: مع عظم مقداره، وغاية صلابته، وتناهي قساوته. قال القاشاني: أي: قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: وتلك الأمور، وإن كانت وهمية، مفروضة، فلابد من اعتبارها وضربها للناس الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا، ولينهم فقست قلوبهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: ليعلموا أنه أولى بذلك الخشوع والتصدع.
قال الزمخشري: الآية تمثيل كما مرّ في قوله:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وقد دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} والغرض توبيخ الْإِنْسَاْن على قسوة قلبه، وقلة تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه، مع أنه:

.تفسير الآيات (22- 24):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [22- 24].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: المعبود الذي لا تنبغ العبادة والإلوهية إلا له {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما غاب عن الحس وشوهد {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أي: المنعم بالنعم العامة والخاصة. ومن كان مطلعاً على الأسرار يحب أن يخشع له ويخشى منه، لاسيما من حيث كونه منعماً؛ إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} أي: الغني المطلق، الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه {الْقُدُّوسُ} أي: المنزه عما لا يليق بجلاله، تنزها بليغاً {السَّلاَمَ} أي: الذي يسلم خلقه من ظلمه أو المبرأ عن النقائص كالعجز {الْمُؤْمِنِ} أي: لأهل اليقين بإنزال السكينة، ومن فزع الآخرة {الْمُهَيْمِنُ} أي: الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه {العَزِيزُ} أي: القوي الذي يغلِب ولا يُغلب {الْجَبَّارُ} أي: الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته، قاله الغزالي في المقصد الأسنى.
وقال الإمام ابن القيم في الكافية الشافية:
وكذلك الْجَبَّارُ من أوصافه ** والجبر في أوصافه قِسمانِ

جبرُ الضعيف وكل قلب قد غدا ** ذا كسرة فالجبرُ منه داني

والثانِ جبر القهر بالعز الذي ** لا ينبغي لسواه من إنسان

وله مسمَّى ثالث وهو العـ**ـلوّ فليس يدنو منه من إنسان

من قولهم جبَّارة للنخلة ال ** عليا التي فاتَتْ بكل بَنَانِ

{الْمُتَكَبِّرِ} أي: الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأوثان والشفعاء.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} أي: المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته {الْبَارِئُ} أي: الموجد لها بعد العدم {الْمُصَوِّرُ} أي: الكائنات كما شاء.
{لّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} أي: الدالة على محاسن المعاني، وأحاسن الممادح.
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: في تدبيره خلقه. وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
تنبيهات:
الأول: قال السيد ابن المرتضى في إيثار الحق: مقام معرفة كمال الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد الذي لابد منه؛ لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عُدَّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكايدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً فذموا الأمر المحمود، ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي، والجحد المحض، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة، قال الله جل جلاله:
{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائهِ} [الأعراف: 180]. وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. فما كان منها منصوصاً في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته. وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفاً في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمَّى به.
ثم قال: وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلماً تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه. ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضاً لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة، كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء، فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر، وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص.
ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب. فليرجع إليه النَّهِمُ بالتحقيقات.
الثاني: قال الغزاليّ في المقصد الأسنى- وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى-: هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف، أو تجوز بطريق العقل؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز، إلا ما منع منه الشرع، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى. فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمة الله عليه، أن ذلك موقوف على التوقيف، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى، إلا إذا أذن فيه.
والمختار عندنا أن نفصل ونقول: كل ما يرجع إلى الاسم، فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف، فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب. ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده.
الثالث: قال السيد المرتضى في إيثار الحق: قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير، وأكثرها واضح. والعصمة فيها عدم التشبيه، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى.
ثم قال: ولابد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ، وهو أصل عظيم، وذلك تفسير الحسنى جملة: فاعلم أنها جمع الأحسن لا جمع الحسن، وتحت هذا سر نفيس: وذلك أن الحسن من صفات الألفاظ، ومن صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان: حسن وأحسن، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه حُسْنَى، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه. ثم بّين مثال ذلك فانظره.

.سورة الممتحنة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} أي: أنصاراً. نهيٌ لأصحاب النبي صلوات الله عليه، عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} أي: صميم المحبة، والباء زائدة في المفعول {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} أي: من الإيمان بالله ورسوله وكتابه، الذي هو نهاية الهدى، وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أنهم لم يكفهم ذلك حتى آذوا المؤمنين، بما يقطع العلائق معهم رأساً، بقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أي: من أرضكم ودياركم {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي: يخرجونكم لإيمانكم بالله، الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بوصف كونه رباكم بالكمالات، فهي بالحقيقة عداوة مع الله.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم، وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، ولهذا قال تعالى: {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]، وقوله تعالى {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} أي: هاجرتم {جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي} أي: للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به. والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بـ: {لَا تَتَّخِذُوا} أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} أي: من المودة معهم وغيرها {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي: اتخاذهم أولياء {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله هدى ونجاة.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [2].
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي: يظفروا بكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء} أي: حرباً، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} أي: بما يسوؤكم كالقتل والشتّم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي: بما جاءكم من الحق.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [3].
{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} أي: قراباتكم {وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي: بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقال القاشانيّ: أي: لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله، لأن القيامة مفرقة. وهذا معنى قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34- 36]، انتهى. وهو تأويل جيد.
لطيفة:
قال السمين: يجوز في {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بما قبله، أي: لن تنفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بـ: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}
والثاني: أي: يتعلق بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على {أَوْلاَدَكُمْ}، ويبتدأ بـ: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
{وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فيجازيكم عليه.
تنبيهات:
الأول: قال ابن جرير: ذكر أن هذه الآيات، من أول هذه السورة، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ثم ساق الروايات.
وأما رواية البخاري فعن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» فذهبنا تَعَادَى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب! فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب، أو لنلقيَنَّ الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه:
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا حاطب؟» قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً، ولا ارتداداً عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم» فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال: «إنه شهد بدراً، وما يدريك، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
قال عمرو بن دينار- راوي الحديث- ونزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} الآيات.
قال ابن كثير: كان حاطب هذا رجلاًً من المهاجرين، ومن أهل بدر. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لمَّا نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: «اللهم عمِّ عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا، فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً. كما ذكر في الحديث.
الثاني: قال ابن كثير: يعني تعالى بقوله {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} المشركين والكفار، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]. وقال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد. انتهى.
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة، وإن أخطأ. والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة، ولذلك قال الإمام إلكيَا الهَراسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية، لأنها في موضوع آخر. وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد المرتضى في إيثار الحق في المسالة الثامنة. قال بعد أن أورد الآيات والأحاديث: هذا كله في الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين، إذا كان لأجل إسلامهم، وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالفة والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}- كما يأتي- وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة. وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة، لأهل المدرسة: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولّى الناصر الكثير منهم، وصلى بهم الجمعة جعفرُ الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم.
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي موالاة الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، ونحو ذلك.
قال السيد: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]. ومنها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآيتين، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء، بعد آيات التحريم، رواه أحمد والبزار والواحدي، وتأخرهما واضح في سياق الآيات، وقرينة الحال مع هذا الحديث. ولو لم يصح تأخر ذلك، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور. ورجحه ابن رشد في نهايته بالنصوصية على ما هو خاص فيه. ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليهما من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة- هذه- وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة، والتقية فيما لا يضر في ظنه.
فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟
قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث. وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} [النساء: 83] ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم. فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم، لما فيه من الخيانة، لا نفس الفعل، لو تجرد من الكتم والخيانة- والله أعلم- انتهى.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقده، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم. وهذا هو السر في الحقيقة، كما بينه آية: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5]. وسيأتي بيانه.
ثم علّم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم، وبقوله سبحانه: